رفع كفاءات المبدعين بالتدريب وتوفير الدعم والأدوات

تُعد الحرف والصناعات اليدوية إرثاً ثقافياً ومجالاً للابتكار، وكانت الحرف اليدوية في الماضي من أهم طرق الكسب المادي التي يرتزق منها معظم أفراد المجتمع، والحرف هي الأنشطة التي يقوم الحرفي بمزاولتها والاستفادة فيها من الخامات الطبيعية المتوفرة في البيئة المحلية وتحويلها إلى منتجات ذات منافع متنوعة تساهم في توفير الاحتياجات والمتطلبات اللازمة للمجتمع بصورة عامة، وعانت العديد من المجتمعات في الماضي، خاصةً في العالم العربي من ثقافة العيب في العمل المهني، ووقفت تلك الثقافة حاجزاً أمام من كانوا يرغبون الانخراط في الأعمال الحرفية والتكسب من خلالها، حتى أنه وصل الأمر من تلك النظرة، والتي ترسخت لدى بعض أفراد المجتمع العربي عامة والسعودي خاصة إلى عدم تزويج من يمتهنون الحرف اليدوية، مما جعل الكثيرين من أبناء المجتمع يحجمون عن امتهانها، على الرغم أنها كانت تشكل دخلاً جيداً، وأن تلك الحرف تعد من الأعمال الشريفة في مختلف المجالات وتشجع على الاعتماد على ابن الوطن والاستغناء عن الأغراب وتسهم ممارسة المهن في تطوير المجتمعات في كافة مناحي الحياة، وفي المملكة استطاعت حكومتنا الرشيدة الوقوف في وجه ثقافة العيب ودعمت الأعمال الحرفية، لما تمثله تلك الحرف والصناعات اليدوية من مظاهر تراثية تحمل إبداعات تسهم في تطوير حياة الشعوب ونمط عيشها وأسلوب تفكيرها.

الأنبياء والمِهن

وكان العديد من الأنبياء يمارسون المهن الصناعيّة والحِرفيّة، فنبي الله زكريا -عليه السلام- كان يعمل بالنِجارة، وكان آدم -عليه السلام- يعمل بالحياكة، ونوح -عليه السلام- يعمل نجاراً بدليل صناعته للسفينة، لِقولهِ تعالى: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ»، أمّا إدريس -عليه السلام- فقد ذكر الشيباني في كتابه «كسب الأنبياء» أنّ إدريس -عليه السلام- كان يعمل بالخياطة، ونبينا إلياس كانت مهنته الغزل والنسيج، ونبي الله إبراهيم ولوط -عليهما السلام- جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّهم اشتغلا بالزِّراعة، كما أن نبينا إبراهيم -عليه السلام- كان بنّاءً، فقد بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل، لِقولهِ -تعالى-: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، أما نبي الله سليمان -عليه السلام- فقد جاء عن الإمام الثعالبيّ أنه كان أول من عمل في صناعة الصّابون، وداود -عليه السلام- كان حدّاداً، لِقولهِ تعالى: «َلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، فكان يصنع الدُّروع التي تُستخدم في الحرب، ويُنفق من ذلك على نفسه وأهله، ويتصدَّق منها، فقال الله -تعالى- عنه: «وَعَلَّمناهُ صَنعَةَ لَبوسٍ لَكُم»، وخصّهُ النبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ»، وقد خصَّه بالذِّكر بالرغم من أنّ مُعظم الأنبياء كانوا يعملون؛ لأنّه كان ملكاً، ونبياً، وصانعاً في الوقت نفسه، ورويَ أنَّ سُليمان -عليه السلام- كان يصنع المكاييل.

قيمة حضارية

والحرف اليدوية، هي الصناعات التي يُعتمد في صناعتها على اليد البشرية، وتستخدم فيها بعض الأدوات أو الآلات البسيطة، ويقوم بصناعتها حرفي واحد أو مجموعة حرفيين من المواد المحلية الطبيعية بالطرق التقليدية، ويستند الحرفي في عمله إلى مهاراته الفردية الذهنية واليدوية، وخبراته التي اكتسبها من خلال التدريب والممارسة والتراكم وامتداد التجربة التي جعلته في حوار دائم مع الخامات والمكونات التي تنتجها بيئته المحلية، وكذلك البحث الدائم عن أسرار الحرفة التي احترفها بدافع الإيمان قبل الحاجة، والآن أصبح ينظر إلى الحرف والصناعات اليدوية؛ على أنها قيمة حضارية؛ تعكس مدى تطور التراث عبر حقب زمنية موغلة في القدم، فهي تنقل العادات والتقاليد السلوكيات المجتمعية التي كانت سائدة، وتكشف عن طبيعة الحياة التي عاشها السابقون، حتى وإن كانت النظرة إلى من يصنعون هذه القيمة الحضارية في الماضي تبدو في كثير من الأحيان غير منصفة، فالتغير المتسارع في أنماط الحياة، والمغريات التي تطرح على شكل فرص متعددة لتحسين جودة الحياة؛ جعلت كثيرين من محترفي الصناعات اليدوية يعزفون عنها، وجعلت الأجيال الجديدة مفصولة عن معطياتها، فيتوارثون قيمتها الحضارية ويفخرون.

مكونات ثقافية

ويعد التراث الثقافي الحرفي في المملكة واحداً من أهم المكونات الثقافية الحضارة الشعب السعودي، وأحد الروابط الأساسية للتسلسل التاريخي الذي يشكل حلقة متصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وليس هذا فحسب بل هو جزء أساس من الهوية الوطنية وتجسيد مادي ومعنوي لهذه الهوية، فهو يجمع بين الأماكن، والقيم، والعادات والتقاليد، وأنماط التعبير البشري والإبداع في الإنتاج سواء كانت المنتجات فردية أم جماعية، مثل: اللوحات، والرسومات، والفسيفساء، والمنحوتات، والمخطوطات والمشغولات بخاماتها وأنواعها كافة، وغيرها من المنتجات اليدوية التي يتم إنتاجها بجودة ومهارات عالية بأدوات ووسائل تقليدية تتوارثها الأجيال، وتتعرف من خلالها على ماضيها وهويتها الثقافية المتجذرة في التاريخ الإنساني.

تطوير وتفعيل

ودور هيئة الثقافة بالمملكة كبير في تطوير قطاع الحرف، فأصبح يهدف قطاع الحرف والصناعات اليدوية إلى تطوير وتفعيل الأنظمة واللوائح والرخص الخاصة بالحرف اليدوية، وتوثيق الحرف اليدوية والحرفيين، ونشر الوعي بهدف صونها وحمايتها من الاندثار، إضافةً إلى رفع كفاءات ومهارات الحرفيين من خلال التدريب وتوفير الدعم والأدوات اللازمة، وكذلك تطوير البرامج والشراكات لتسويق المنتجات الحرفية داخل المملكة وخارجها، كما أنها أصبحت ذات شأن كبير في وقتنا الحاضر، وتنقسم الحرف اليدوية في الوقت الحاضر إلى نوعين: حرفة إنتاجية فنية، وحرفة تراثية، وتعد حرفة يدوية إذا ارتكزت أساساً على العمل اليدوي وكانت تزاول كمهنة رئيسة مستمرة وتهدف إلى تحويل الخامات إلى منتج مصنع أو نصف مصنع باستخدام الآلة أو بدونها، ويتم استخدام الموارد البيئية المحلية بصفة أساسية حسب توفرها.

أمان واستثمار

وتسعى المملكة من خلال العديد من قطاعاتها إلى إحياء ودعم الحرفيين في كافة المجالات، ومن تلك المجالات سبق وتم إعداد برنامج باسم البرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية -بارع- تحقق من خلاله العديد من الإنجازات لتنظيم وتطوير هذا القطاع تحت شعار نقل الأسر من الضمان إلى الأمان والاستثمار، وجاء تأسيس البرنامج تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء الصادر عام 1433هـ بإقرار الاستراتيجية الوطنية لتنمية الحرف والصناعات اليدوية، وتعد الحرف اليدوية مشروعاً اقتصادياً وتنموياً يعول عليه كثيراً في إيجاد فرص العمل والتنمية المحلية مع المحافظة على عنصر ثقافي مهم ومكون أساس في الهوية الوطنية وتعزيز المواطنة والانتماء الوطني، وتمكن البرنامج من تنفيذ برامج لتدريب وتأهيل الحرفيين، ودعمهم بإشراكهم في المعارض والمجمعات التجارية، إضافة إلى إدخال منتجاتهم في الفنادق، وتسويقها إلكترونياً، ودعم الحرفيين والحرفيات بالقروض لمشاريعهم الصغيرة، وتشجيعهم بالجوائز المختلفة.

أنشطة متعددة

وهدف البرنامج إلى إيجاد موقع متكامل وشامل ليكون محور العمل الحرفي في المناطق والمدن الرئيسة، ويشمل مركز الإبداع الحرفي على أنشطة متعددة للتدريب وتطوير المنتجات والتسويق والمبيعات لمنتجات الحرف اليدوية كما يحرص البرنامج على أن إيجاد مراكز الإبداع ضمن المواقع والمسارات السياحية ليتمكن السائح من الاستمتاع بعروض الحرفيين الحية وهم يمارسون حرفهم، ومن هذه المراكز مركز الإبداع الحرفي بالبيوت الطينية في مركز الملك عبدالعزيز بالرياض، ومركز الإبداع الحرفي بالغاط، وسوق المسوكف بعنيزة، وكذلك سوق الأسر المنتجة بمدينة جازان، وضمن مبادراتها في برنامج التحول الوطني وفي إطار برنامج «برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة» تم اعتماد السعودية للحرف والصناعات اليدوية، التي تتولى دعم وتطوير جودة منتجات الحرف والصناعات اليدوية بمناطق المملكة، والقيام بجميع الأعمال والأنشطة الأساسية والوسيطة والمكملة اللازمة لتنفيذ أوجه النشاط المختلفة.

مشاركات إبداعية
رواية الماضي لجيل اليوم
إحياء اليوم العالمي للتراث
منصات تسويقية لتحقيق هوامش أرباح