أثبتت السعودية في السنوات الأخيرة أنها ما زالت المؤثر الأكبر في إدارة سوق الطاقة العالمي وتنظيم إمدادات النفط، إذ إنها لم تغيّر إنتاجها بكميات كبيرة فحسب، وإنما قادت تحالف أوبك+ إلى بر الأمان بعد أن كادت الأمواج العاتية تطيح به، كما أنها أعادت تركيز بوصلة أوبك وحلفائها، إذ يُغيَّر المعروض بما يتلاءم مع الطلب في كل الأوقات، ويُخفض الاعتماد على النفط مصدرًا للدخل، تمامًا كما هدف مؤسسي أوبك في تصورهم لدور المنظمة في عامي 1959 و1960، بحسب وحدة أبحاث الطاقة ومقرها واشنطن.
كما أن المملكة لم تثبت ريادتها في أسواق النفط فحسب، وإنما أثبتت ريادتها العالمية في مجالات الطاقة المتجددة والهيدروجين وزيادة كفاءة الطاقة، وسط جهود مكافحة التغيّر المناخي، وتُعَدّ السعودية هي أكبر منتج للنفط بين أعضاء أوبك، وأكبر دولة مصدّرة للخام في العالم، ورغم أنها ثاني أكبر منتج للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة -متفوقة على روسيا- فإن لديها أكبر طاقة لإنتاج النفط الخام عالميًا، أو بعبارة أخرى، إذا قررت السعودية أن تنتج بكامل طاقتها الإنتاجية فإنها ستكون أكبر منتج للنفط في العالم.
وبغض النظر عن ترتيب المملكة في الإنتاج والتصدير، إلا أنها الأكثر تأثيرًا في أسواق النفط العالمية، فهي الدولة الوحيدة التي تستطيع تغيير إنتاجها صعودًا أو هبوطًا بكميات كبيرة، وتساعدها في ذلك سياستها النفطية التي تقضي بتوافر طاقة إنتاجية فائضة لا تقل عن مليوني برميل يوميًا لاستعمالها في وقت الطوارئ.
فضلًا عن ذلك؛ فإن التغيّرات الأخيرة -فيما يتعلّق بتحول الطاقة وجهود خفض الانبعاثات- تثبت ريادة المملكة في قطاع الطاقة عمومًا وليس النفط فقط، وسط مشروعات ضخمة للهيدروجين والطاقة الشمسية، ضمن الأكبر في العالم. وتمتلك السعودية ثاني أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط في العالم بعد فنزويلا، إذ بلغت 267.2 مليار برميل بنهاية عام 2023، دون تغيير تقريبًا عن عام 2022، وفق بيانات منظمة أوبك وأويل آند غاز جورنال. وتمتلك المملكة العربية السعودية ما يقرب من 17 % من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم، وفق المعلومات المنشورة على موقع أوبك.
وكانت احتياطيات السعودية ثابتة لمدة طويلة من الزمن عند مستوى قريب من 265 مليار برميل، رغم الإنتاج الضخم، وذلك بسبب سياسة أرامكو التي تقتضي التعويض فقط عما أُنتج سنويًا، في محاولة لترشيد الإنفاق الرأسمالي، وهذه الفكرة مهمة لأن ثبات الاحتياطيات في السعودية مرتبط بسياسة الاستثمار، ولا علاقة له بموضوع نضوب النفط.
وبلغ إنتاج النفط الخام في السعودية 9.6 ملايين برميل يوميًا خلال عام 2023، انخفاضًا من 10.53 ملايين برميل يوميًا في 2022، بالتزامن مع التخفيضات الطوعية، التي تنفّذها المملكة بالتعاون مع تحالف أوبك+. وفي يناير 2024، سجل إنتاج النفط السعودي 8.96 ملايين برميل يوميًا، مقابل 8.94 ملايين برميل يوميًا خلال الشهر السابق له، واستمر حول هذه المستويات (بين 8.9 ملايين و9 ملايين برميل يوميًا) خلال الأشهر التالية من 2024، إذ بلغ 8.98 ملايين برميل يوميًا في أغسطس 2024، وفق أحدث بيانات أوبك.
وتأتي مستويات الإنتاج هذه مع الخفض الطوعي السعودي؛ إذ شهد شهر مايو 2023، بدء التخفيضات الطوعية من جانب المملكة بمقدار 500 ألف برميل يوميًا، ضمن 9 دول أخرى من تحالف أوبك+، بإجمالي 1.6 مليون برميل يوميًا، قبل أن تُمدد حتى نهاية 2025.
وإلى جانب هذا الخفض، بدأت المملكة منذ يوليو 2023 تخفيضات طوعية إضافية قدرها مليون برميل يوميًا، قبل أن تكون في إطار خفض طوعي لـ8 دول من تحالف أوبك+، بإجمالي 2.193 مليون برميل يوميًا، بداية من يناير 2024 ومستمرة حتى نهاية نوفمبر 2024، على أن تعود هذه الكميات تدريجيًا إلى السوق بداية من ديسمبر 2024، مع إمكان إيقاف هذه الزيادة أو عكسها، وفقًا لظروف السوق. وهذه التخفيضات الطوعية تأتي فضلًا عن انخراط المملكة في اتفاقية تحالف أوبك+ لخفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًا منذ نوفمبر 2022 حتى نهاية 2025.
وقادت السعودية سوق النفط إلى برّ الأمان خلال جائحة كورونا، ثم بعدها الحرب الروسية الأوكرانية، التي دفعت الأسعار لمستويات تاريخية، كما تواصل جهودها حاليًا لدعم الأسواق عبر التخفيضات الطوعية.
وبالعودة إلى الوراء، وتحديدًا في منتصف عام 2020، حدث صدام بين السعودية والدولة التي تقود منتجي الخام الحلفاء من خارج أوبك -روسيا- ما تسبب في نشوب حرب للأسعار بين الجانبين حينذاك، لكن سريعًا ما عاد كبار منتجي النفط إلى طاولة المفاوضات، كما أبرموا اتفاقًا من شأنه سحب الإمدادات النفطية من الأسواق، لمواجهة انهيار الطلب على الخام الذي خلّفه فيروس كورونا وتداعيات مواجهة الوباء على النشاط الاقتصادي.
وقبل كل هذا، كان هناك اتفاق لخفض الإمدادات النفطية من جانب تحالف أوبك+، وهي المجموعة التي تضم أعضاء أوبك والمنتجين من خارج المنظمة، بدأ أوائل عام 2019 حتى 30 مارس 2020، وسبقه اتفاق من بداية عام 2017 حتى نهاية 2018.
وبالعودة إلى اتفاق التحالف خلال الوباء، استمرت السعودية في قيادة الدول الأعضاء في منظمة أوبك في خفض الإمدادات خلال 2020، كما أقرت تنفيذ الخفض الطوعي لإمدادات النفط بنحو مليون برميل يوميًا في شهري فبراير ومارس 2021، قبل أن تمدّد هذا القرار حتى أبريل، وتنهيه في الأشهر الثلاثة التالية.
وفي شهر يناير 2021، زاد الإنتاج السعودي من الخام، لكنه انخفض بصورة حادة -930 ألف برميل يوميًا- في فبراير، ليتراجع من 9.077 إلى 8.126 مليون برميل يوميًا، وهو ما يتزامن مع قرار الخفض الطوعي الذي نفذّته الرياض، قبل العودة إلى مستويات فوق 9 ملايين برميل يوميًا خلال يوليو 2021، واستمر في الصعود حتى تجاوز حاجز 10 ملايين برميل يوميًا أوائل 2022.
وتزامن ذلك مع سياسة تحالف أوبك+ للتخلص التدريجي من التخفيضات القياسية خلال الوباء، مع تعافي أسعار الخام، وهو ما حدث بنهاية أغسطس/آب 2022، ثم التحالف لرفع الإنتاج بمقدار 100 ألف برميل يوميًا في سبتمبر، قبل أن يقرر خفضه بالكمية نفسها خلال أكتوبر 2022.
ومع عودة أسعار النفط للارتفاع القوي جراء التعافي من الوباء، اتفق تحالف أوبك+ على خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًا بدءًا من نوفمبر 2022، وحتى نهاية 2023، قبل أن يقرر تمديد الخفض لنهاية 2024 ثم لنهاية 2025.
وفي السياق نفسه، بلغ إنتاج السعودية من النفط الخام والمكثفات والسوائل الغازية 11.34 مليون برميل يوميًا عام 2023، انخفاضًا من 12.12 مليون برميل يوميًا عام 2022، وفق أحدث بيانات معهد الطاقة. وفي نهاية يناير 2024، أعلنت أرامكو تلقّيها توجيهًا من وزارة الطاقة السعودية بالمحافظة على مستوى الطاقة الإنتاجية القصوى المستدامة عند 12 مليون برميل يوميًا، وذلك بعدما كانت تستهدف زيادتها بمقدار مليون برميل يوميًا بحلول عام 2027.
وتعليقًا على ذلك، قال وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان -خلال مشاركته في افتتاح فعاليات المؤتمر الدولي لتكنولوجيا البترول 2024: "أجّلنا زيادة القدرة الإنتاجية بمقدار مليون برميل يوميًا، ببساطة لأننا نتحول، والتحول يعني أن شركة النفط (أرامكو) تتحول من شركة هيدروكربونات إلى شركة طاقة".
ومن ناحية أخرى، بلغ استهلاك السعودية من النفط 4.04 ملايين برميل يوميًا عام 2023، وفق أحدث بيانات معهد الطاقة، مرتفعًا من 3.85 ملايين برميل يوميًا العام السابق له، كما يوضح الرسم البياني أدناه، الذي يرصد الاستهلاك منذ عام 1965 وحتى 2023:
ويشار إلى أن هذه البيانات سالفة الذكر وغيرها من تقديرات الشركات والمؤسسات العالمية لا تُفرّق بين "الطلب" و"الاستهلاك"؛ فالأرقام المذكورة هي طلب السعودية على النفط، لكن استهلاكها المحلي أقلّ من ذلك بكثير، كونها تقوم بتكرير النفط وتُصدر كميات كبيرة من المنتجات النفطية، كما تستعمل بعض السوائل في صناعة البتروكيماويات العملاقة، التي تُصدر منتجاتها إلى الخارج، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على استهلاك الغاز الطبيعي.
وفي صادرات النفط، ووفق أحدث البيانات الشهرية لدى وحدة أبحاث الطاقة، بلغت صادرات السعودية من النفط الخام المنقول بحرًا 5.56 ملايين برميل يوميًا خلال أغسطس 2024، مقابل 5.57 ملايين في الشهر السابق له. وكان أعلى مستوى مسجل للصادرات السعودية من الخام خلال 2024 هو 6.38 ملايين برميل يوميًا في مارس 2024، في حين كان أقلّ مستوى 5.19 ملايين خلال يونيو الماضي، الذي شهد زيادة الطلب المحلي في المملكة، تزامنًا مع موسم الحج.
وبحسب أرقام أوبك السنوية، بلغت صادرات السعودية من النفط الخام والمنتجات النفطية 7.9 ملايين برميل يوميًا (6.5 ملايين من النفط الخام) في 2023، مقارنة مع 8.8 ملايين عام 2022، تزامنًا مع التخفيضات الطوعية للإنتاج. ويمثّل قطاع النفط والغاز ما يقرب من 50 % من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية -التي يبلغ عدد سكانها قرب 33 مليون نسمة-، كما يُشكّل هذا القطاع نحو 67 % من عوائد الصادرات بنهاية 2023.
وتُجدر الإشارة إلى أن المملكة حققت عوائد إجمالية قدرها 442.5 مليار دولار من صادراتها عام 2022، من بينها 326.28 مليار دولار من قطاع النفط فقط. وبعد الانخفاض الكبير في إمدادات الخام وأسعار النفط خلال 2020، صعدت الإيرادات بصورة كبيرة خلال عامي 2021 و2022؛ بسبب ارتفاع الأسعار والإنتاج معًا.
وفي عام 2023، تراجعت إيرادات السعودية من صادرات النفط بنسبة 24 %، لتصل إلى 248.26 مليار دولار، مع هبوط أسعار الخام وانخفاض الصادرات والإنتاج بسبب التخفيضات الطوعية. وفي النصف الأول من 2024، انخفضت إيرادات صادرات السعودية من النفط بنحو 5.4 %، لتصل إلى 118.5 مليار دولار، مقارنة مع 125.3 مليار دولار في المدّة نفسها من 2023. وبحسب إفصاح الاكتتاب الخاص بالطرح العام الأولي لأسهم أرامكو، فإن متوسط تكلفة إنتاج برميل النفط الواحد في السعودية يُقدّر بنحو 2.8 دولار، لتكون التكلفة الأقل في العالم.
وفي أداء الاقتصاد، وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، توسّع اقتصاد السعودية بنحو 7.5 % خلال عام 2022، ليكون الأسرع نموًا من بين اقتصادات مجموعة الـ20، مع الإصلاحات الشاملة الداعمة للأعمال التجارية والارتفاع الحاد في أسعار النفط وتعافي الطاقة الإنتاجية من الركود الناجم عن الوباء في عام 2020.
وأشار معهد التمويل الدولي، في تقرير لعام 2021، إلى أن تأثير وباء كورونا في اقتصاد السعودية كان محدودًا، بسبب إسهام قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي. وأدت استجابة السياسة القوية من جانب حكومة السعودية إلى وضع المملكة في مسار أفضل بالنسبة إلى التعافي الاقتصادي. وفي 2023، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انكماش الناتج المحلي السعودي بنحو 0.8 %، لكنه يتوقع نمو بنسبة 2.6 % خلال عام 2024. وترجع تقديرات أداء الاقتصاد السعودي إلى التخفيضات الطوعية لإنتاج النفط، التي تجريها المملكة للحفاظ على توازن السوق.
وفي الاقتصاد الدائري للكربون، وخلال رئاستها اجتماعات دول مجموعة الـ20 عام 2021، أطلقت السعودية مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، لتكون أول من يتبنى هذا النوع من الاقتصاد، بهدف خفض الانبعاثات الكربونية. وترى السعودية أن الاقتصاد القائم على تدوير الكربون هو إطار فعّال؛ لتشجيع خفض مستوى الانبعاثات على مستوى العالم، ودعم جهود تحقيق التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي.
وعلى خلاف نموذج اقتصاد الكربون الخطي الذي يعتمد على استعمال المواد ثم التخلص منها، يشجع اقتصاد تدوير الكربون على تبني نموذج تدويري يركز على 4 محاور رئيسة: الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وإعادة استعمالها وتدويرها وإزالتها من البيئة، وفقًا لشركة أرامكو.
وفي الغاز الطبيعي، تمتلك السعودية 335.97 تريليون قدم مكعبة (9.5 تريليونات متر مكعب) من الاحتياطيات المؤكدة للغاز الطبيعي بنهاية عام 2023، وفق تقديرات أويل آند غاز جورنال، المتوافقة مع بيانات منظمة أوبك.
وانخفض إنتاج الغاز الطبيعي في السعودية إلى 114.1 مليار متر مكعب بنهاية 2023، مقارنة مع 116.7 مليار متر مكعب عام 2022، لكنه يمثّل ارتفاعًا حادًا عن مستويات الإنتاج عام 1970 والبالغة 1.5 مليار متر مكعب فقط، وفق أحدث بيانات معهد الطاقة.
ولا تستورد الرياض الغاز أو تصدره؛ ففي نهاية عام 2023، بلغ استهلاك الغاز الطبيعي في السعودية 114.1 مليار متر مكعب مقابل 116.7 مليار متر مكعب، إذ يأتي أغلب الطلب من صناعة البتروكيماويات الضخمة في البلاد. ويستهلك جميع الغاز الطبيعي المنتج في المملكة العربية السعودية محليًا في محطات توليد الكهرباء وصناعة والبتروكيماويات وغيرها من القطاعات، ومحطات تحلية المياه، فضلًا عن إعادة حقن الغاز في حقول النفط.
وتنتج شركة أرامكو -المملوكة للدولة- نحو 50 مليون قدم مكعبة يوميًا من الغاز غير المصاحب، مع 8.8 مليار قدم مكعبة يوميًا من الغاز المصاحب، وفقًا لتقديرات شركة بلاتس أناليتيكس أوائل عام 2020. وفي نوفمبر 2023، نجحت شركة أرامكو، في إنتاج أول غاز حبيس غير تقليدي في جنوب حقل الغوار، بقدرة معالجة وصلت إلى 300 مليون قدم مكعبة يوميًا من الغاز، و38 ألف برميل يوميًا من المكثفات.
التعليقات