أول أمر إلهيّ «إقرأ»؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق)، أوّل تعرُّف الإنسان على ربّه بالربوبية والخالقيّة والكرم والعلم، كذا أوّل ما نزل من تعريف الإنسان بنفسه «مربوبا» و»مخلوقاً» و»مكرّما» و»مُعلّما». والقراءة جمع؛ فاجمع باسم الله إلى نفسك علماً يُكرِمك الله به، كما جمعك من علقة حتى أدركت، ولم تكن من قبل شيئاً مذكورا؛ متبيّناً لعظيم المنّة بالتعليم المباشر من أكرم مُعَلَّم سبحانه وتعالى. فالخلْق كفاك الخالق سبحانه مؤونته، وأما العلم فقد أغدق عليك بكرمه لتنهض بهذه الأمانة، بدءاً بالتبيّن «القراءة» وتثنية بالبيان «الكتابة»؛ فقد سخر لك الأدوات لتجمع ما يتنزّل، تعرّفاً على الكرم الإلهيّ، ومنّه التعليم الإلهيّ. ونُبئ الإنسان بهذا البيان حينما استدار الزمان، ليتلقى أكرم وأكمل إنسان صلى الله عليه وسلم هذه الآيات، في أوّل بعثته صلوات ربّي وسلامه عليه. وميّز الإنسان بـ «البيان»؛ الذي لم يأت في القرآن مسنداً إلا إلى الحق سبحانه، ثم الإنسان.

والقراءة تبيّن، والكتابة والنطق بيان، وبالتبيّن «قراءة» يتفاضل الناس لعدة عوامل، ويُعرف هذا التفاضل بالأثر العلميّ والعمليّ في حياتهم. وتتعدد مهارات القراءة بتعدد التخصصات، ونوعية المقروء، ونوع القارئ نفسه؛ وما يُتطلّب من تركيز وحُسن تذكّر.

ولقد أرشد أ.د. حمّو النقاري لمهارات «القراءة الخُلقيّة الواعية»، وإن كان في المِران عليها بداية بعض التأخر والعسر -وما بعد العسر إلا اليسر-، حتى يتطبّع بها القارئ فتغدو ملكة يتملّك زمامها. وقد عدّ للقراءة عناصرَ الوصف العاقل، وهي: «سياق القراءة» وهو الإطار العام المنظّم لفعل القراءة من جهة القارئ، وأسئلته: ما هو السياق الذي تندرج فيه قراءة المقروء؟ وما هي مختلف أسيقة القراءة بصفة عامة؟ و»مقاصد القراءة»، وأسئلتها: ما هي المطالب المعرفية والعلمية والمنهجية التي يطلب القارئ تحصيل الجواب عليها بواسطة قراءته؟ و»اتصالية القراءة» سؤالها: ما درجة أهلية القارئ وعدله في قراءته لمقروئه؟ و»كلفة القراءة»؛ ما هو قدر الاجتهاد الذي بذله القارئ في قراءته؟ و»تذليل القراءة»؛ ما هي صعوبات المقروء التي استطاع القارئ تذليلها وترويضها إن وجدت؟ و»إحكام القراءة»؛ ما هي الآليات العقلية التي عقل بها القارئ مقروءه إن في حرفيته أو في روحه؟ «استنباطية القراءة»؛ ما هي الأمور التي انتقاها القارئ ليبرزها بعدِّها المراد من المقروء؟ وما مشروعية هذا الانتقاء وهذا الإبراز؟ و»إهمالية القراءة»؛ ما هي الأمور التي أهملها القارئ في قراءته؟ وما أسباب هذا الإهمال؟ و»استقرائية القراءة»؛ كيف رد القارئ مقروءه إلى جوامع وما مشروعية هذا الرد؟ و»تبعية القراءة» هل قرأ القارئ مقروءه كله أم اكتفى بجزء منه فقط؟ و»تأويلية القراءة» ويعني بالتأويلية: إرجاع المقروء لدلالة دون غيرها وفق قواعد، وأسئلتها: ما هي القواعد التأويلية التي راعاها القارئ في قراءته لمقروئه؟ وما هي القواعد الترجيحية التي وازن بها القارئ بين تأويلات ممكنة ومختلفة لمقروئه؟ و»فائدة القراءة» ما مدى استنفاع القارئ بقراءته من جهة الاستهداء بها علماً أو من جهة الاسترشاد بها عملاً؟

أما عند تخصيص نوع معيّن من المهارات القرائية، فلا بدّ أن يخصص بغرض أو مجال، ومن ذلك تخصيص مجال مهارات القراءة الخاصة بالفلسفة، التي يتفاضل معها قراء الفلسفة، وقد ذكرها أ. د. النقاري بعد أن أثَّل فعل «القراءة» بوصفه فعلاً عاقلاً، وبيّن قوة القراءة استناداً على المعايير التي أخذت بها. فالقراءة التفلسفية القارئة للنص الفلسفي بوصفهِ مكوّنا من ثلاث مكونات أساسية هي: المفهوم، والتعريف، والاستدلال؛ تستدعي أفعال التفلسف الثلاثة: الاستشكال، والفحص، والتمثُّل؛ لتُضَمَّ القراءة الفلسفية إلى مكونات الخطاب الفلسفي: المفهوم، التعريف، الاستدلال، فتتعدد أنواع القراءات الفلسفية العالية على النحو التالي: القراءة المستشكلة للمفهوم، والقراءة الفاحصة للمفهوم، والقراءة المتمثلة للمفهوم، والقراءة المستشكلة للتعريف، والقراءة الفاحصة للتعريف، والقراءة المتمثلة للتعريف، والقراءة المستشكلة للاستدلال، والقراءة الفاحصة للاستدلال، والقراءة المتمثلة للاستدلال.

والتي تؤدي به إلى جملة أحوال، أهمها سبعة هي: أن القارئ المتفلسف له تقاليده، ومتسائل، ومستنبط، ومُعْتَبِر، ومهموم يعاني المقروء، ومُتمثّل للمقروء، ومنسّق له. وبهذه الأحوال تتفاضل القراءات التفلسفيّة، ومن رحمها يخرج الإنتاج التفلسفي، فالقراءة العميقة تتطلب مهارات عالية حتى تصبح القراءة عملاً إبداعياً منتجاً.